فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (22- 34):

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
قوله: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {يُسلِّمْ} بالتشديد، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} [البقرة: 112] وأشباه ذلك.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي: اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس: هي: {لاَ إله إِلاَّ الله} [الصافات: 35].
{وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور} يعني مرجعها. {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور * نُمَتِّعُهُمْ} نعمّرهم ونمهلهم {قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نُلجئهم، ونردّهم {إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ}.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد}.
قوله عزّ وجلّ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية. قال المفسِّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء: 85] الآية، «فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا: يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول: وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كلاًّ قد عنيت. قالوا: ألستَ تتلوا فيما جاءَك: إنّا قد أُوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في علم الله قليلٌ وقد آتاكم الله ما إنْ عملتم به انتفعتم. قالوا: يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزلَ الله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ}»
أي بريت أقلاماً {والبحر} بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع، وحجّتهم: قراءة عبدالله وبحر {يَمُدُّهُ} أي يزيده وينصب عليه {مِن بَعْدِهِ} من خلفه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} وفي هذه الآية اختصار تقديرها: ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدُّهُ من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق؛ لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق.
{إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} هذه الآية على قول عطاء بن يسار: مدنيّة، قال: نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره: مكّيّة، قالوا: إنّما أمرَ اليهود وفد قريش أنْ يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة، والله أعلم.
قوله: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني إلاّ كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 19] أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِك} الذي ذكرتُ لتعلموا: {بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله} برحمة الله، {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على أمر الله {شَكُورٍ} على نِعَمِهِ. قال أهل المعاني: أراد لكلّ مؤمن، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل} قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب والظلل جمع ظلّه شَبَّهَ الموجَ بها في كثرتها وارتفاعها كقول النّابغة في صفة بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال ** على حافاته فلق الدنان

وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع، لاِنَّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضاً كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر، وأصله من الحركة والازدحام.
{دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} قال ابن عبّاس: موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان: مؤمن. مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. الكلبي: مقتصد في القول من الكفّار لأنَّ بعضهم أشدّ قولاً وأغلى في الافتراء من بعض. ابن زيد: المقتصد الذي على صلاح من الأمر. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدّار {كَفُورٍ} جحود، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب:
وإنّك لو رأيت أبا عمير ** ملأت يديك من غدر وختر

قوله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي} لا يقضي ولا يُغني ولا يكفّر {وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور}. قراءة العامّة: بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا: هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين ومعناه لا تغتروا {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} الآية. نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية، أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الساعة ووقتها وقال: إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمتُ أين وُلدتْ فبأيّ أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبدالله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي عن ابن شهاب، عن سالم بن عبدالله ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «مفاتيحُ الغيب خمسة {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} الآية».
وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال: «لقد أُوتيتُ علماً كثيراً أو علماً حسناً» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ تلا رسول الله هذه الآية {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إلى قوله: {خَبِيرٌ} فقال: هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلاّ الله تبارك وتعالى.
وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش، عن علي بن حشرم، عن الفضل بن موسى، عن رجل سمّاه قال: بلغ ابن عبّاس أنَّ يهودياً خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال: إنْ شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال: إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي، وأنت لا تخرج من الدُّنيا حتى تعمى، فقال ابن عبّاس: وأنت يا يهودي؟ قال: لا يحول عليَّ الحول حتى أموت، قال: فأين موتك؟ قال: لا أدري. قال ابن عبّاس: صدق الله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. قال: فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغَ عشراً حتّى مات الصبي، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا: مات، وما خرجَ ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي: هذا أعجب حديث.
قوله: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كان حقه بأيّة أرض، وبه قرأ أُبيّ بن كعب، إلاّ أنّ مَن ذَكَّر قال: لاِنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل: أراد بالأرض المكان فلذلك ذَكَّر، وأحتجُ بقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا الأرض ابقل ابقالها

.سورة السجدة:

مكّية، وهي ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفاً، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وثلاثون آية.
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي، عن عمران بن موسى، عن مكي بن عبدان، عن سليمان بن داود، عن أحمد بن نصر قال: أخبرني أبو معاد، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم، عن زيد العمي عن أبي نضرة، عن ابن عبّاس، عن أُبيّ بن كعب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة {الم تَنْزِيل} أُعطي من الأجر كأنَّما أحيا ليلة القدر».
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهنرزي بها، عن حمزة بن محمد بن العبّاس ببغداد، عن عبدالله بن روح عن شبابة بن سوار عن المغيرة بن مسلم، عن ابن الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان لا ينام حتّى يقرأ {الم تنزيل} السجدة و{تبارك الذي بيده الملك} ويقول: «هما تفضلان كلّ سورة في القرآن سبعين حسنة، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحي عنه سبعون سيئة، ورفع له سبعون درجة».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 11):

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}
قوله عزّ وجلّ: {الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين * أَمْ يَقُولُونَ}. أي، بل يقولون وقيل: الميم صلة، أي أيقولون استفهام توبيخ. وقيل: هو بمعنى الواو يعني ويقولون. وقيل: فيه إضمار مجازه: فهل يؤمنون به، أَمْ يقولون: {افتراه} ثمّ قال: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} أي لم يأتهم {مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ}.
قال قتادة: كانوا أُمّةً أُمّيّة لم يأتهم نذير قبل محمّد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبّاس ومقاتل: ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمّد عليهما السلام.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض {ثُمَّ يَعْرُجُ} يصعد {إِلَيْهِ} جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدُّنيا، وَقَدْرُ مسيرِهِ ألف سنة، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء. وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول: لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلاّ في ألف سنة، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء، ونزولهم من السماء إلى الأرض، وأمّا قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل عليه السلام.
يقول: يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامهِ مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك، وأمّا معنى قوله: {إِلَيْهِ} على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أنْ يعرج إليه، كقول إبراهيم عليه السلام {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي} [الصافات: 99] وإنّما أراد أرض الشام. وقال: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ} أي إلى المدينة، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام.
أخبرني ابن فنجويه، عن هارون بن محمد بن هارون، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن محمد بن المتوكل، عن عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبدالله عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني ملك برسالة من الله عزّ وجلّ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء، والاُخرى في الأرض لم يرفعها». وقال بعضهم معناه: يُدَّبِرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرض مدّة أيّام الدنيا، ثمّ يَعْرُجُ إليه الأمر والتدبير، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وهو يوم القيامة.
وأمّا قوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فإنّه أراد على الكافر، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة. ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّتهِ وهوله ومشقّته لاِنّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسِّرين.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريح قال: أخبرني ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية، فقال له ابن عبّاس: مَنْ أنت؟ قال: أنا عبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان، فقال عبدالله بن عبّاس: أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي، وأكره أنْ أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتّى دخلتُ على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك ما حضرتُ مِن ابن عبّاس، فأخبرته، فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عبّاس قد اتّقى أنْ يقول فيها وهو أعلم منّي.
قوله: {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قرأ نافع وأهل الكوفة {خَلَقه} بفتح اللاّم على الفعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثمّ قالا: لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب. وقرأ الآخرون بسكون اللام. قال الأخفش: هو على البدل ومجازه: الذي أحسَنَ خلقَ كلِّ شيء.
قال ابن عبّاس: أتقنه وأحكمه، ثمّ قال: أما إنَّ أست القرد ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها. وقال قتادة: حسنُه. مقاتل: علم كيف يخلق كلّ شيء، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان} يعني آدم عليه السلام {مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} ذريته {مِن سُلاَلَةٍ} من نطفة، سمّيت بذلك لاِنّها تنسل من الإنسان، أي تخرج، ومنه قيل للولد: سلالة. وقال ابن عبّاس: وهي صفو الماء {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} ضعيف {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وقالوا} يعني منكري البعث، {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} أي أُهلكنا وبطلنا وصرنا تراباً، وأصله من قول العرب: ضلّ الماء في اللبن إذا ذهب، ويقال: أضللت الميّت أي دفنته. قال الشاعر:
وأب مُضلوهُ بغيرِ جَلية ** وغُودر بالجولان جرم ونائل

وقرأ ابن محيصن بكسر اللام {ضللنا} وهي لغة. وقرأ الحسن والأعمش {ضَلَلْنَا} بالصاد غير معجمة أي أَنتنّا، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه.
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال: أخبرني أبو حامد المستملي، عن محمد بن حاتم الكرخي أبو عثمان النحوي، عن المسيب بن شريك، عن عبيدة الضبي، عن رجل، عن علي أنّه قرأ أَءِذَا ضللنا أي أنتنّا. قال محمّد بن حاتم: يقال: صلَّ اللّحم وأصل إذا أنتن.
{أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} قال الله: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}.
قوله عزّ وجلّ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم} بقبض أرواحكم {مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} قال مجاهد: حويت له الأرض فجُعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء، وقال مقاتل والكلبي: بلغنا أنَّ اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا، وجناح من الأفق الآخر. ورجل له بالمشرق، والأخرى بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وجُعلت له الدنيا مثل راحة اليد، صاحبها يأخذ منها ما أَحبّ في غير مشقة ولا عناء، أي مثل اللّبنة بين يديه فهو يقبض أنْفُس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبدالله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطّاب بن أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم عن ابن عبّاس قال: إنّ خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
وأخبرنا الحسين بن محمد، عن عبدالله بن يوسف، عن عبد الرحيم بن محمد، عن سلمة ابن شبيب، عن الوليد بن سلمة الدمشقي، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معد، عن معاذ بن جبل قال: إنّ لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفّح وجوه الناس، فما من أهل بيت إلاّ وملك الموت يتفحّصهم في كلّ يوم مرّتين، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة، وقال: الآن يزار بك عسكر الأموات.
وأخبرنا الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبدالله بن أحمد ابن حنبل، عن أَبي، عن عبدالله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال: دخل ملك الموت على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر، فلمّا خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليَّ كأنّه يريدني، قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند، ثمّ أتى ملك الموت سليمان عليه السلام فقال: إنّك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي، قال: كنتُ أعجبُ منه إنّي أُمرت أنْ أقبضَ روحه بالهند وهو عندك.
فإن قيل: ما الجامع بين قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] و{تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} [النحل: 28] و{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] و{وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل} [الأنعام: 60].
قيل: تَوفّي الملائكة: القبض والنزع. وتوفّي ملك الموت: الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها، وتوفّي الله سبحانه: خلق الموت، والله أعلم.